إن الشعور بالانجذاب الشديد إلى الأشخاص المتاحين عاطفياً بشكل متقطع أو الذين يبتعدون ويقتربون بشكل متكرر هو ظاهرة نفسية عميقة وشائعة. يبدو الأمر وكأنه تناقض؛ فبدلاً من أن ننجذب إلى العلاقة الآمنة والمستقرة، نجد أنفسنا مغمورين بالهوس بمن هم غير مضمونين أو بعيدين المنال. يفسر علم النفس هذا التعلق الشديد واللاواعي بمجموعة معقدة من العوامل، أبرزها ديناميكيات التعلق، ومبدأ الندرة، وتأثير نظام المكافأة في الدماغ. تفصيل وتحليل أعمق الأسباب الكامنة وراء هذا النمط السلوكي المؤلم والمحبط.
1. نظرية التعلق: البحث عن مألوف مؤلم
تُعد نظرية التعلق، التي طورها جون بولبي، الحجر الأساس في فهم سبب انجذابنا لمن يبتعدون. الطريقة التي كوّنا بها روابطنا المبكرة مع مقدمي الرعاية (عادةً الوالدين) تشكل نمط التعلق الذي نتبناه في العلاقات الرومانسية لاحقًا.
2.1. أنماط التعلق غير الآمنة: أساس التعلق بالبعيد
الأشخاص الذين ينجذبون بشدة إلى من يبتعدون غالبًا ما يكون لديهم أحد نمطين من أنماط التعلق غير الآمنة:
2.1.1. نمط التعلق القَلِق (Anxious Attachment Style)
ينبع هذا النمط عادةً من طفولة كان فيها الوالد غير متسق في الاستجابة لاحتياجات الطفل. هذا التذبذب يخلق قناعة داخلية بأن القرب العاطفي ليس مضمونًا ويجب القتال للحصول عليه.
الكلمات المفتاحية: الخوف من الهجر، الاحتياج المفرط للطمأنينة، الغيرة، التشبث.
التفسير النفسي: عندما يبتعد الشريك، يُفعل في العقل الباطن جرح الطفولة، ويشعر الشخص القلق بأن عليه بذل جهد مضاعف لـ "إصلاح" العلاقة واستعادة القرب، مما يزيد من التعلق القهري.
2.1.2. نمط التعلق المتجنب (Avoidant Attachment Style)
قد يبدو غريباً، لكن حتى المتجنب ينجذب إلى البعيد، ولكن لسبب مختلف. نشأ المتجنبون عادةً في بيئة تم فيها تجاهل احتياجاتهم العاطفية أو قوبلت بـ الرفض، فتعلموا أن الاستقلالية هي الأمان.
الكلمات المفتاحية: الخوف من الاندماج، الاستقلالية المفرطة، تجنب القرب، الانسحاب.
التفسير النفسي: يختار المتجنب لا شعوريًا شخصًا من المحتمل أن يبتعد (أو يبتعد هو عنه أولاً) لأنه يوفر له المسافة الآمنة التي يحتاجها. إن التعلق بشخص غير متاح هو في الواقع وسيلة للحفاظ على الحدود العاطفية وتجنب العلاقة الحميمية الكاملة والمخيفة.
2. علم الأعصاب والبيولوجيا: إدمان "المكافأة المتقطعة"
يلعب الدماغ دوراً حاسماً في تعزيز هذا التعلق المؤلم من خلال آليات المكافأة والإدمان.
2.2. تأثير نظام المكافأة المتقطع (Intermittent Reinforcement)
هذه هي الآلية الأقوى التي تفسر لماذا نصبح مهووسين بالأشخاص الذين يبتعدون.
النظرية السلوكية: التعزيز المتقطع هو جدول مكافأة تكون فيه المكافأة (الاهتمام، القرب، الحب) غير منتظمة وغير متوقعة. هذا النمط هو الأقوى على الإطلاق في ترسيخ السلوك.
ديناميكيات العلاقة: عندما يبتعد الشريك، يشعر الشخص بالحرمان والألم. وعندما يعود الشريك فجأة ويقدم جرعة صغيرة من الاهتمام، فإن هذه المكافأة المفاجئة تطلق كمية هائلة من الدوبامين في مراكز المكافأة بالدماغ.
الكلمات المفتاحية: إدمان الدوبامين، التعزيز المتقطع، الهوس، البحث عن المكافأة.
النتيجة: الدماغ يربط القرب بـ الجهد المضني والمكافأة العالية، مما يجعل هذا الشخص المتقطع يبدو أكثر قيمة وجاذبية من الشخص المستقر والمتاح الذي لا يتطلب "قتالاً" للحصول على اهتمامه.
2.3. مبدأ الندرة والقيمة المُتصورة
يرتبط هذا المبدأ بـ علم الاقتصاد السلوكي وكيف نقدر الأشياء.
تفسير القيمة: كلما كان الشيء أكثر ندرة وصعوبة في الحصول عليه، زادت قيمته المتصورة. الشخص الذي يبتعد يُعتبر سلعة نادرة، وبالتالي فإن حبّه يبدو هدفاً أسمى يستحق العناء.
التحفيز الذاتي: محاولة الفوز بـ الشخص الصعب تُحفز تقدير الذات بشكل لاواعٍ. إذا نجح الشخص في "إعادة" الشريك المبتعد، فإنه يشعر بقوة هائلة وكفاءة ذاتية.
3. العوامل المعرفية والثقافية: إضفاء المثالية
تساهم الطريقة التي نُفكر بها عن الحب والعلاقات، وتأثير الروايات الثقافية، في تكريس هذا التعلق.
3.1. تحيز الاكتمال (The Completion Bias)
يميل العقل البشري إلى التركيز على المهام غير المكتملة؛ وهي ظاهرة تعرف باسم تأثير زيجارنيك.
تطبيق على العلاقات: العلاقة مع شخص يبتعد هي بطبيعتها علاقة غير مكتملة وغير مُرضية. العقل يرفض "إغلاق الملف" ويركز على إنهاء المهمة (جعله يبقى أو يحبني بالكامل).
الكلمات المفتاحية: تأثير زيجارنيك، المهام غير المكتملة، الهوس المعرفي، الاجترار.
الاجترار العقلي: هذا الاجترار والتفكير المفرط في "ما الخطأ؟" و"ماذا كان يمكن أن يحدث؟" يبقي الشخص المبتعد في مقدمة الوعي باستمرار.
3.2. دور الخيال وإضفاء المثالية
في غياب القرب الحقيقي، يملأ العقل الفجوات بـ الخيال.
الهروب من الواقع: الشخص المبتعد لم يمنحنا فرصة لرؤية عيوبه بشكل كامل؛ لأن العلاقة لم تكن مستقرة بما يكفي.
المثاليات: يصبح الشخص المبتعد مشروعًا غير مكتمل يمكننا إلباسه صفات مثالية في خيالنا (بسبب الندرة والغموض)، مما يجعله أكثر جاذبية من الشخص الحقيقي الذي نراه يوميًا.
4. الخاتمة: التحول نحو التعلق الآمن
إن التعلق بالشخص المبتعد ليس ضعفًا أخلاقيًا، بل هو نمط لاواعٍ متجذر في تجارب الطفولة وبيولوجيا الدماغ. لفهم هذا التعلق وإنهاء هذه الحلقة المؤلمة، يجب على الفرد:
الوعي بنمط التعلق: فهم ما إذا كان النمط قلقًا أم متجنبًا هو الخطوة الأولى.
إعادة برمجة الدماغ: مقاومة الإغراءات المرتبطة بـ "جرعة الدوبامين" الناتجة عن المكافأة المتقطعة والبحث عن الاستقرار كبديل مرغوب.
تطوير الاستحقاق: إدراك أن القرب والوضوح العاطفي هما حق في أي علاقة صحية وليسا شيئًا يجب القتال من أجله.
أسئلة وأجوبة متكررة (FAQ)
س 1: هل الانجذاب للأشخاص غير المتاحين عاطفياً يدل بالضرورة على وجود نمط تعلق قلق؟
ج: غالبًا نعم، ولكنه ليس الشرط الوحيد. التعلق القلق هو التفسير الأبرز لأنه ينشط الخوف الأساسي من الهجر ويجعل الفرد يسعى بشدة لـ "إصلاح" الشريك البارد. ومع ذلك، قد يكون أيضًا مؤشرًا على نمط التعلق المتجنب-الخائف (Fearful-Avoidant) الذي يريد القرب ولكنه يخشاه في نفس الوقت.
س 2: ما هو دور "الدوبامين" في ظاهرة التعلق بالشخص المبتعد؟
ج: الدوبامين هو ناقل عصبي مرتبط بالتحفيز والبحث عن المكافأة. عندما يكون الشريك متاحاً بشكل متقطع (تعزيز متقطع)، فإن حالة الشك والتوتر التي تسبق عودته المفاجئة تطلق كميات هائلة من الدوبامين في الدماغ عند الحصول على "المكافأة" (الاهتمام أو الرسالة). هذا الشعور القوي يُدمن عليه الدماغ، مما يجعلنا مدمنين على الدراما وعدم اليقين بدلاً من الاستقرار.
س 3: كيف يمكن التمييز بين الانجذاب الحقيقي وبين التعلق المرضي القائم على "المكافأة المتقطعة"؟
ج: الانجذاب الحقيقي ينمو في سياق الاحترام المتبادل، الاستقرار، والقرب العاطفي المتسق. أما التعلق المرضي فيُعرف بـ الألم العاطفي المتكرر، القلق المستمر، الشعور بعدم الاستحقاق، والهوس بأفعال الشريك المتباعدة. إذا كانت العلاقة تجعلك تشعر بالهوس والتوتر أكثر من الهدوء والسعادة، فمن المرجح أنها مبنية على ديناميكية المكافأة المتقطعة وليست حباً صحياً.
س 4: هل يمكن تغيير نمط التعلق غير الآمن إلى نمط آمن؟
ج: نعم، هذا ممكن تماماً، وهو هدف العلاج النفسي. يُعرف هذا بـ التعلق المكتسب (Earned Secure Attachment). يتطلب ذلك الوعي الذاتي، فهم تجارب الطفولة، والعمل على تطوير مهارات تنظيم العواطف. يمكن للعلاقات الصحية الجديدة مع شريك آمن أن تساعد أيضًا في إعادة برمجة النمط السلوكي والعاطفي مع مرور الوقت.
س 5: ما هو تأثير "تأثير زيجارنيك" على تعلقنا بالأشخاص البعيدين؟
ج: يشير تأثير زيجارنيك إلى أن عقولنا تتذكر المهام غير المكتملة بشكل أفضل من المهام المكتملة. في سياق التعلق، يُنظر إلى العلاقة المتقطعة أو البعيدة كـ مهمة غير مُنجزة (لم نحصل على الحب الكامل، لم نُفهم بالكامل، لم نصل إلى الإغلاق). العقل الباطن يركز على هذه "المهمة المعلقة" ويستمر في اجترارها ومحاولة إكمالها أو إغلاقها، مما يؤدي إلى زيادة الهوس والتعلق.