لطالما كان الحب ملاذًا للراحة والأمان، ولكنه يتحول أحيانًا إلى سجن من الألم النفسي. نتساءل جميعًا بتعجب وألم: لماذا نتمسك بمن يؤذينا نفسياً؟
إنها ظاهرة اجتماعية ونفسية محيرة ومؤلمة في آن واحد، حيث يجد الأفراد أنفسهم عالقين في علاقات تستنزفهم عاطفيًا وتهدد سلامتهم النفسية، ومع ذلك يجدون صعوبة بالغة في التحرر منها.
سنغوص في الأعماق المظلمة لهذا التساؤل، مستكشفًا التفسيرات العلمية والنفسية المعقدة التي تجعلنا نتسامح مع الأذى، بل ونتمسك بمصدره، مقدمًا إجابات دقيقة ومحدثة بلغة عربية بسيطة يفهمها الجميع.
المفاهيم الأساسية: تدمير الذات أم محاولة البقاء؟
عندما نتحدث عن التمسك بشخص مؤذٍ، يجب أن ندرك أن الأمر نادرًا ما يتعلق بالغباء أو ضعف الإرادة. بل هو شبكة معقدة من الاستجابات النفسية والبيولوجية التي تشكلت عبر سنوات من التجارب.
في جوهرها، محاولة التمسك هي غالبًا محاولة يائسة لحماية فكرة الأمان التي بنيناها حول العلاقة، حتى لو كانت هذه العلاقة سامة في الواقع.
نحاول تبرير الألم، أو ربما نسعى لإعادة تمثيل أنماط قديمة مألوفة لدينا، اعتقادًا منا أنها الطريقة الوحيدة التي نعرف بها الحب أو التعلق.
🧠 الجذور النفسية للتمسك بالمؤذي
لا يمكن فهم هذا التناقض العاطفي دون العودة إلى المدارس الكبرى في علم النفس التي تقدم تفسيرات وافية ومقنعة.
1. التعلق الصادم (Trauma Bonding) ومتلازمة ستوكهولم
يُعد التعلق الصادم أحد أقوى التفسيرات لظاهرة لماذا نتمسك بمن يؤذينا نفسياً؟. يحدث هذا النوع من الارتباط عندما يتبادل الشخص المؤذي أفعال الإساءة بلحظات من اللطف أو الندم المصطنع.
تخلق هذه الدورة من الإساءة والمكافأة شعورًا زائفًا بالتقارب والاعتماد على مصدر الألم ذاته. يُصبح الضحية أسيرًا للأمل بأن الشريك المؤذي سيتغير للأفضل قريبًا.
أما "متلازمة ستوكهولم"، فعلى الرغم من أنها تُستخدم عادةً في سياقات الاختطاف، إلا أن جوهرها ينطبق جزئيًا: تطوير مشاعر إيجابية تجاه المسيء كوسيلة نفسية للبقاء والتعامل مع موقف لا يمكن الهروب منه.
2. التعزيز المتقطع (Intermittent Reinforcement)
هذا المفهوم مستمد من علم النفس السلوكي، وهو المفتاح لفهم إدمان العلاقات المؤذية. بدلاً من الحصول على مكافأة أو لطف باستمرار، تأتي المكافأة بشكل متقطع وغير متوقع.
عندما يأتي اللطف بعد فترة من الأذى، يُطلق الدماغ جرعة كبيرة من الدوبامين (هرمون المكافأة). هذا يعزز السلوك بشكل أقوى بكثير من المكافأة المنتظمة.
يتحول الضحية إلى مدمن يسعى بشكل قهري للحصول على "المكافأة" النادرة، متجاهلاً الألم المستمر في سبيل لحظة راحة عابرة.
3. التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance)
التنافر المعرفي هو حالة من عدم الارتياح العقلي تنشأ عندما يحمل الشخص معتقدين متناقضين في نفس الوقت.
في سياق العلاقات المؤذية، يكون التناقض بين: (أ) "هذا الشخص يحبني" و (ب) "هذا الشخص يؤذيني بشدة".
لتقليل هذا التوتر المعرفي، يقوم الدماغ بتغيير أحد المعتقدين. عادةً ما يتم تبرير الإساءة أو التقليل من شأنها ("أنا السبب"، "الأمر ليس سيئًا لهذه الدرجة")، مما يعزز البقاء في العلاقة.
4. مفهوم الذات وتاريخ التعلق في الطفولة
غالبًا ما تتأصل دوافعنا في التمسك بالمؤذين في تجاربنا المبكرة. إذا نشأ شخص في بيئة غير مستقرة أو كان لديه نمط تعلق غير آمن، فقد يرى أن الألم العاطفي هو جزء طبيعي من العلاقة.
إن الاعتقاد المتجذر بـ "أنا لا أستحق الأفضل" أو "هذا هو أفضل ما يمكنني الحصول عليه" يلعب دورًا كارثيًا، حيث يبحث الضحية دون وعي عن علاقات تعكس وتؤكد مفاهيمه الذاتية السلبية.
⛓️ دور أنماط التعلق غير الآمنة
تُعد نظرية التعلق، التي طورها جون بولبي، من أهم الأدوات لفهم التمسك بشخص مؤذٍ. أنماط التعلق التي نطورها في الطفولة تؤثر على كيفية تفاعلنا في العلاقات الحميمة كبالغين.
| نمط التعلق | خصائصه في العلاقة السامة | السبب وراء التمسك |
| القلق/المنشغل | يبحث عن القرب المفرط، يخشى الهجر، يتسامح مع الأذى للحفاظ على العلاقة. | الخوف من الهجر: أي شكل من أشكال الاهتمام، حتى لو كان سامًا، أفضل من الوحدة. |
| التجنبي/الرافض | يبتعد عاطفيًا، ولكنه قد يتمسك بشريك مؤذٍ يمنحه مساحة عاطفية (منفصلة). | تأكيد معتقداته: يؤكد هذا النمط أن العلاقات تؤدي إلى الألم، مما يبرر عدم الاستثمار العاطفي الكامل. |
| غير المنظم (الخائف) | يتناوب بين الرغبة الشديدة في القرب والخوف من التعرض للأذى (يرغب في الهروب والاقتراب في آن واحد). | صراع داخلي: تكرار أنماط الطفولة الصادمة، حيث كان المصدر الوحيد للأمان هو مصدر الخطر في نفس الوقت. |
إعادة تمثيل الماضي (Repetition Compulsion)
هذه الآلية، التي اقترحها فرويد، تشير إلى دافعنا اللاواعي لتكرار سيناريوهات مؤلمة من الماضي، خاصةً تلك المتعلقة بعلاقتنا بمقدمي الرعاية الأوائل.
إننا نسعى لإعادة تمثيل الصدمة، ليس للاستمتاع بالألم، بل في محاولة لا واعية لتغيير النهاية هذه المرة. نتمسك بالشريك المؤذي على أمل أن ننجح في إصلاحه أو إرضائه، وبالتالي "تصحيح" العلاقة الصادمة الأصلية التي فشلنا فيها في الطفولة.
⚛️ الكيمياء الحيوية وإدمان الألم
لا يقتصر الأمر على علم النفس وحده، فالأدمغة تتغير كيميائيًا تحت ضغط العلاقات المؤذية، مما يجعل الهروب أكثر صعوبة.
هرمونات التوتر والمكافأة
كما ذكرنا، فإن التعزيز المتقطع يُنشط الدوبامين. وفي الوقت نفسه، فإن الإساءة المستمرة ترفع مستويات الكورتيزول (هرمون التوتر).
هذه الدورة تخلق "إدمانًا" بيولوجيًا على العلاقة. الدماغ يعتاد على المستويات العالية من التوتر، وعند محاولة الابتعاد، يشعر الشخص بأعراض انسحاب حقيقية.
يُصبح الشريك المؤذي هو العلاج والداء في آن واحد. العودة إليه تعني انخفاضًا مؤقتًا في الكورتيزول (لأن حالة عدم اليقين قد انتهت مؤقتًا)، مما يعطي شعورًا زائفًا بالراحة.
الخوف من المجهول (The Fear of the Unknown)
البقاء في وضع مألوف، حتى لو كان سيئًا، غالبًا ما يبدو أكثر أمانًا للدماغ من المغامرة في المجهول.
يُفضل الدماغ الألم الذي يعرفه على الخطر المحتمل الذي لا يستطيع التنبؤ به. هذا النوع من التفكير الوقائي يعرقل قدرة الشخص على رؤية مستقبل خالٍ من الأذى.
📝 صندوق معلومات مختصر: التفسيرات الرئيسية
| السبب النفسي | الوصف باختصار |
| التعلق الصادم | تبادل الإساءة بلحظات من اللطف العابر، مما يخلق إدمانًا على العلاقة ومصدر الأذى. |
| التعزيز المتقطع | الحصول على المكافأة (اللطف) بشكل غير منتظم، مما يعزز السلوك ويجعل الضحية مدمنًا للمحاولة. |
| التنافر المعرفي | تبرير الإساءة والتقليل من شأنها لتقليل التوتر بين الحقيقة (الأذى) والمعتقد (الحب). |
| أنماط التعلق | تكرار أنماط الطفولة غير الآمنة، حيث يصبح الألم جزءًا متوقعًا من أي علاقة حميمة. |
🏘️ العوامل الاجتماعية والثقافية المعززة للتمسك
لا يمكن إغفال تأثير البيئة الخارجية والمجتمع في دعم بقاء الشخص في علاقة مؤذية، حتى وهو يتساءل لماذا نتمسك بمن يؤذينا نفسياً؟.
1. وصمة "الفشل" والخوف من الانفصال
في العديد من الثقافات، خاصةً العربية، لا يزال الطلاق أو الانفصال يحمل وصمة اجتماعية ثقيلة. يفضل الكثيرون تحمل الألم والبقاء على إطلاق الحكم عليهم بأنهم "فاشلون" في الحفاظ على أسرهم.
يصبح الضغط الاجتماعي والعائلي أقوى من دافع الحفاظ على الصحة النفسية، مما يجبر الضحية على التمسك بالقشور للحفاظ على المظهر العام.
2. الاعتماد المادي والاجتماعي
العديد من العلاقات المؤذية تتضمن شكلاً من أشكال السيطرة المادية أو الاجتماعية. قد يكون الضحية معتمدًا ماليًا بشكل كامل على شريكه، أو قد يكون الشريك هو الرابط الوحيد له بشبكة اجتماعية معينة.
إن الخوف من الفقر، أو فقدان الأصدقاء المشتركين، أو عدم القدرة على إعالة الأطفال بمفرده، غالبًا ما يُعتبر حواجز لا يمكن تجاوزها، حتى مع وجود الأذى النفسي المستمر.
3. الافتقار إلى الحدود الشخصية (Poor Boundaries)
الأشخاص الذين يفتقرون إلى حدود شخصية واضحة أو أولئك الذين يعانون من متلازمة "المنقذ" (Saviour Complex) يجدون صعوبة بالغة في الابتعاد.
يشعرون أن مهمتهم هي إصلاح الشريك المؤذي وتحويله إلى شخص أفضل. هذا الإحساس بالمسؤولية المغلوطة يربطهم بالشخص المؤذي، اعتقادًا منهم أنهم وحدهم القادرون على إنقاذه.
🛤️ طريق التحرر والشفاء: من التمسك إلى الاستقلال
إن إدراك لماذا نتمسك بمن يؤذينا نفسياً هو الخطوة الأولى والأكثر أهمية على طريق الشفاء. التحرر من هذا النمط يتطلب عملاً نفسيًا شاقًا ولكنه ممكن ومستحق.
1. الاعتراف بالنمط وتسمية الأذى
يجب على الضحية أن يتوقف عن تبرير أو تلطيف الإساءة. تسمية السلوك باسمه الحقيقي ("إساءة"، "تلاعب"، "تحكم") يساعد على تفكيك التنافر المعرفي.
يجب إدراك أن المشكلة ليست في الضحية، بل في طبيعة العلاقة التي تتغذى على اختلال القوة والسلطة.
2. استعادة مفهوم الذات (Self-Worth)
الشفاء يتطلب إعادة بناء الشعور الداخلي بالقيمة الذاتية. هذا يتم عبر ممارسة الرعاية الذاتية، واستعادة الهوايات القديمة، وإعادة الاتصال بشبكات الدعم الاجتماعية الصحية.
عندما يتم تعزيز القيمة الداخلية، يُصبح العقل أقل عرضة لقبول فتات الاحترام أو اللطف من مصدر الأذى.
3. بناء حدود صحية والالتزام بالابتعاد
الحدود هي خطوط دفاع النفس. يجب تحديد ما هو مقبول وما هو غير مقبول، والالتزام بإنهاء العلاقة فور تجاوز هذه الحدود، دون تفاوض.
في حالات التعلق الصادم، غالبًا ما يكون "عدم الاتصال على الإطلاق" (No Contact) هو الاستراتيجية الأكثر فاعلية لكسر دورة الإدمان البيولوجي والنفسي.
4. طلب المساعدة المتخصصة
غالبًا ما تتطلب العلاقات السامة تدخلًا علاجيًا. يمكن للمعالج النفسي أو الأخصائي الاجتماعي أن يقدم أدوات للتعامل مع الصدمة وإعادة صياغة أنماط التعلق.
العلاج يساعد على فهم الجذور القديمة للسلوك (أنماط الطفولة) ووضع خطة خروج آمنة ومستدامة.
❓ الأسئلة الشائعة (FAQ)
س1: هل أنا ضعيف إذا وجدت صعوبة في ترك شخص يؤذيني نفسياً؟
ج: إطلاقًا. إن الصعوبة في ترك شخص مؤذٍ ليست علامة على الضعف، بل هي نتيجة لآليات نفسية وبيولوجية قوية مثل "التعلق الصادم" و"التعزيز المتقطع" التي تعزز الإدمان على العلاقة. هي استجابة طبيعية لظروف غير طبيعية.
س2: كيف أعرف الفرق بين الحب الحقيقي والتعلق الصادم؟
ج: الحب الحقيقي يجعلك تشعر بالسلام والأمان والنمو. أما التعلق الصادم فيتميز بـ "دورة الإساءة": تتناوب فيها فترات الأذى الشديد مع فترات من اللطف المبالغ فيه (شهر العسل). العلاقة التي تكون فيها دائمًا في حالة تأهب أو خوف هي تعلق سام وليست حبًا.
س3: هل يمكن للشخص المؤذي أن يتغير حقًا؟
ج: التغيير ممكن نظريًا، لكنه يتطلب إرادة حقيقية من الشخص المؤذي، واعترافًا كاملاً بالخطأ، والالتزام بعلاج نفسي طويل الأمد. التغيير نادر الحدوث ما لم يتم هذا الالتزام. الاعتماد على "الأمل" بأنهم سيتغيرون هو جزء من التمسك، ويجب أن يكون التركيز على سلامتك أنت.
س4: ما هي الخطوة الأولى العملية التي يجب أن أتخذها الآن؟
ج: الخطوة الأولى هي "توثيق" الأذى. ابدأ بكتابة يوميات تسجل فيها متى وكيف تشعر بالأذى. رؤية النمط مكتوبًا بشكل موضوعي تساعد على كسر التنافر المعرفي وتوفر دليلًا ملموسًا على أن التمسك بهذا الشخص هو خيار يضر بسلامتك النفسية.
🌟 خاتمة مشجعة
إن رحلة البحث عن إجابة لسؤال لماذا نتمسك بمن يؤذينا نفسياً؟ هي رحلة صعبة وشجاعة. لقد أوضحنا أن الأمر ليس فشلاً شخصيًا، بل هو نتاج تداخل معقد بين أنماط التعلق، الكيمياء الدماغية، وتجارب الطفولة.
لكل من يقرأ هذا، تذكر أن قيمتك لا تحددها علاقتك بشخص آخر. يمكنك كسر هذه الدائرة، والتحرر من وطأة التعلق الصادم، واستعادة دفة حياتك نحو الأمان والسلام العاطفي. بداية الشفاء هي قرارك أنت.
المصادر المرجعية والدعم:
للحصول على دعم متخصص، يمكنك الرجوع إلى الهيئات الرسمية للصحة النفسية في بلدك أو المنظمات الدولية التي تقدم إرشادات في مجال العلاقات السامة، مثل (المنظمة العربية للصحة النفسية - رابط وهمي للاسترشاد).