لطالما كان الحب والعلاقات الإنسانية مادة خصبة للدراسة والتحليل، لكن هناك نمطًا محيرًا يظهر مرارًا وتكرارًا: الانجذاب القوي والمغناطيسي نحو شخصيات يصعب فهمها، شخصيات توصف بأنها معقدة عاطفيًا. لماذا نجد أنفسنا، نحن البشر، مدفوعين نحو تلك العلاقات التي غالبًا ما تحمل في طياتها التحدي والدراما، والتي قد تكون في بعض الأحيان مرهقة ومؤلمة؟ هذا التساؤل العميق يقودنا مباشرة إلى صميم علم النفس البشري وسر آليات الانجذاب اللاواعية.
هذا المقال المتعمق يسعى لتقديم تفسير علم النفس الدقيق والمحدث لظاهرة لماذا تجذب الأشخاص المعقدين عاطفيًا؟، محللاً الأسباب الكامنة من منظور نظريات التعلق، وعلم الأعصاب، وديناميكيات البحث عن الذات، وذلك بلغة عربية بسيطة وواضحة يفهمها جميع القراء العرب.
1. مفهوم التعقيد العاطفي: ما الذي نقصده بالضبط؟
قبل الغوص في أسباب الانجذاب، يجب أن نحدد ما يعنيه "الشخص المعقد عاطفيًا". هذا الوصف لا يعني بالضرورة شخصًا سيئًا، بل يشير إلى فرد لديه عالم داخلي غني ومضطرب في آن واحد.
سمات الشخص المعقد عاطفيًا: يميل هذا الشخص إلى التعبير عن مشاعر متناقضة أو مكبوتة، قد يظهر غموضًا أو تقلبًا في المزاج، ولديه تاريخ علاقات مضطرب أو أنماط سلوكية غير متوقعة.
هذا التعقيد ينبع غالبًا من تجارب طفولة غير محلولة، أو صدمات نفسية، أو اضطرابات في الشخصية غير مشخصة، تجعل التواصل معه تحديًا مستمرًا.
إنهم أشخاص قد يكونون شديدي الإبداع أو العاطفة، لكنهم يواجهون صعوبة كبيرة في إدارة تنظيمهم العاطفي أو التعبير عن احتياجاتهم بطريقة صحية.
2. 🧠 التفسير النفسي للجاذبية: لماذا نبحث عن الدراما؟
علم النفس يقدم عدة نظريات مقنعة لتفسير هذا الانجذاب الذي يبدو غير منطقي على السطح، لظاهرة لماذا تجذب الأشخاص المعقدين عاطفيًا؟
أ. نظرية التعلق (Attachment Theory) والنموذج الداخلي العامل
تُعد نظرية التعلق حجر الزاوية في فهم ديناميكيات العلاقة. تشير النظرية إلى أن نوع العلاقة التي كانت لدينا مع مقدمي الرعاية الأساسيين في طفولتنا يشكل "نموذجًا داخليًا عاملًا" (Internal Working Model) يحدد كيف نتوقع ونبحث عن العلاقات في مرحلة البلوغ.
التعلق القَلِق (Anxious Attachment): الأشخاص الذين يمتلكون هذا النمط غالبًا ما ينجذبون إلى شركاء متجنبين أو معقدين. الدافع هنا هو محاولة يائسة لتحقيق الأمان العاطفي الذي افتقدوه في طفولتهم، اعتقادًا منهم أنهم إذا "أصلحوا" هذا الشريك المعقد، سيحصلون أخيرًا على الحب المستقر الذي يتوقون إليه.
التعلق التجنبي (Avoidant Attachment): هؤلاء الأفراد غالبًا ما ينجذبون أيضًا إلى الشخصيات المعقدة، لكن لسبب معاكس. التعقيد العاطفي للشريك يبرر لهم الحفاظ على مسافة عاطفية، وبالتالي يحمون أنفسهم من "خطر" القرب الحقيقي والاندماج الذي يخشونه.
ب. وهم "المنقذ" وإعادة تمثيل الصدمة
كثير من المنجذبين إلى الأشخاص المعقدين لديهم "عقدة المنقذ" أو "متلازمة الممرضة"، وهو شعور داخلي ملح بالحاجة إلى إصلاح الآخرين.
هذا الدافع غالبًا ما يكون إسقاطًا لاحتياجاتهم الخاصة: إنهم يحاولون إصلاح ما هو مكسور في الآخر ليتجنبوا التعامل مع ما هو مكسور داخلهم.
كما أننا نميل لا شعوريًا إلى "إعادة تمثيل" ديناميكيات العلاقات المؤلمة التي مررنا بها في الطفولة، في محاولة يائسة من اللاوعي للوصول إلى نهاية مختلفة وأكثر سعادة هذه المرة. لسوء الحظ، هذا يؤدي في الأغلب إلى تكرار نفس الألم.
ج. البحث عن العمق والإثارة (Intensity and Depth)
العلاقات مع الأشخاص المعقدين نادراً ما تكون مملة. الدراما، الصعود والهبوط العاطفي، التقلبات المفاجئة، كل هذا يولد شعورًا بالإثارة والعمق العاطفي.
يخلط البعض بين الدراما والإثارة وبين العمق العاطفي. قد يشعرون أن العلاقة التي لا تتضمن تحديًا أو صراعًا ليست "حقيقية" أو "عميقة" بما فيه الكفاية، وهو ما يفسر جاذبية المشاعر القوية حتى لو كانت سلبية.
3. 🧪 دور الكيمياء وعلم الأعصاب في الانجذاب المعقد
الجاذبية ليست مجرد قرار عقلاني؛ بل هي مزيج معقد من التفاعلات الكيميائية والهرمونية في الدماغ.
الدوبامين (Dopamine) والتعزيز المتقطع: العلاقة المعقدة تشبه نوعًا من الإدمان السلوكي. عندما يكون الشريك المعقد متاحًا عاطفيًا لفترة وجيزة بعد فترة من الانسحاب، يفرز الدماغ كمية كبيرة من الدوبامين، وهو هرمون المكافأة. هذا التعزيز المتقطع هو الأقوى في إحداث الإدمان، سواء على المخدرات أو العلاقات المضطربة.
الكورتيزول (Cortisol) وتأثير الإجهاد: الإجهاد الناتج عن العلاقة المتقلبة يرفع مستويات الكورتيزول. قد يفسر الجسم هذا الإجهاد على أنه شغف أو تحدي يستحق الاستمرار فيه، مما يديم الدورة.
صندوق معلومات: هل أنت منجذب للشريك المعقد؟
| العلامة في الشريك المعقد | التفسير النفسي للجاذبية لديك |
| الغموض والتقلب | يثير فضولك ورغبتك في "اكتشاف" أعماق هذا الشخص. |
| الانسحاب المفاجئ | ينشط نمط التعلق القَلِق لديك ويشعرك بأنك "تحتاجه". |
| الحاجة للإصلاح | يغذي "عقدة المنقذ" لديك ويمنحك إحساسًا بالهدف والقيمة. |
| الدراما العاطفية | يوفر إحساسًا زائفًا بـ "العمق" و"الشغف" في العلاقة. |
4. 🛠️ أنماط سلوكية تعزز الانجذاب المعقد
توجد أنماط سلوكية معينة لدى الطرف المنجذب تجعل علاقاتهم بالشخصيات المعقدة أكثر رسوخًا.
أ. ضعف الحدود الشخصية
الأشخاص الذين يفتقرون إلى حدود شخصية واضحة يجدون صعوبة في قول "لا" أو في حماية مساحتهم العاطفية. هذا يجعلهم فريسة سهلة للشريك المعقد الذي غالبًا ما يتعدى على هذه الحدود.
ب. تدني تقدير الذات (Low Self-Esteem)
عندما يكون تقدير الذات منخفضًا، يبحث الفرد عن التحقق من قيمته من مصادر خارجية. إن "كسب" حب شخص يصعب الحصول عليه (الشريك المعقد) يصبح دليلاً على القيمة، حتى لو كان هذا الحب متقطعًا ومؤلمًا.
التحقق الزائف: يشعر الشخص بأنه "مهم" لأنه الشخص الوحيد القادر على التعامل مع تعقيدات هذا الشريك، وهو شعور بالتميز زائف ومؤقت.
ج. محاولة التحكم في الفوضى
الشخص المعقد غالبًا ما يمثل فوضى غير منظمة. بالنسبة لشخص يميل إلى أن يكون متحكمًا أو يسعى للسيطرة، فإن محاولة ترتيب هذه الفوضى وإصلاحها تمثل تحديًا مغريًا، يوفر شعورًا مؤقتًا بالإنجاز والقوة.
إذا كنت ترغب في تحليل نمط شخصيتك ودوافعك العميقة التي تقودك نحو هذا النوع من العلاقات، قد تجد فائدة في إجراء اختبار مثل
5. 🧭 الخروج من دائرة الانجذاب المعقد: نحو علاقات صحية
إن فهم لماذا تجذب الأشخاص المعقدين عاطفيًا؟ هو الخطوة الأولى نحو التغيير. يتطلب الخروج من هذه الدائرة جهدًا واعيًا للعمل على الذات وتغيير أنماط التفكير والسلوك المتأصلة.
أ. إعادة صياغة نموذج التعلق الخاص بك
العمل مع معالج نفسي يمكن أن يساعد في تحديد وتصحيح نموذج التعلق الداخلي. الهدف هو الانتقال من الأنماط غير الآمنة (القلق أو التجنبي) إلى نمط التعلق الآمن (Secure Attachment)، الذي يتميز بالراحة مع القرب والقدرة على التعبير عن الاحتياجات بوضوح.
ب. تعزيز الحدود الشخصية
تعلم كيفية وضع وتطبيق الحدود الشخصية الصلبة هو أمر بالغ الأهمية. الحدود ليست جدرانًا لدفع الآخرين بعيدًا، بل هي خطوط تحدد مساحة الأمان والقيمة الذاتية الخاصة بك.
تبدأ بتقييم قدرتك على التعبير عن رغباتك ورفض ما لا يناسبك. لتقييم هذه المهارة، يمكنك الاطلاع على
كخطوة أولية.اختبار القدرة على التعبير عن النفس | تقييم نفسي
ج. فصل القيمة الذاتية عن العلاقة
يجب أن يصبح تقدير الذات داخليًا وغير مشروط. لا يجب أن يعتمد شعورك بالكفاءة أو القيمة على قدرتك على "إصلاح" شريكك أو على حصولك على انتباهه المتقطع. أنت تستحق علاقة مستقرة وصحية بحد ذاتك.
6. 💡 الأسئلة الشائعة (FAQ)
س1: هل الانجذاب إلى التعقيد يعني أنني أعاني من اضطراب؟
ج1: ليس بالضرورة. الانجذاب إلى التعقيد غالبًا ما يشير إلى أنماط تعلق غير آمنة تشكلت في الطفولة، أو ربما يكون بحثًا عن إثارة تربطها بـ "الحب". هذا نمط سلوكي مكتسب يمكن تغييره وليس بالضرورة اضطرابًا، ولكنه قد يكون علامة على وجود قضايا غير محلولة.
س2: ما الفرق بين "الشخص المعقد" و "الشخص المؤذي/السام"؟
ج2: التعقيد العاطفي يشير إلى صراع داخلي وعالم عاطفي متقلب، وقد يكون الشريك غير واعٍ تمامًا لأفعاله. أما الشخص السام أو المؤذي فيتعمد إيذاء الطرف الآخر أو استغلاله بشكل منهجي ومتعمد (مثل النرجسيين في حالاتهم القصوى). التعقيد يمكن أن يتحول إلى سمّية إذا لم يكن هناك وعي أو رغبة في التغيير.
س3: هل يمكن أن تنجح العلاقة مع شخص معقد عاطفيًا؟
ج3: نعم، يمكن أن تنجح العلاقة إذا توفر شرطان أساسيان: الوعي والالتزام. يجب أن يكون لدى الشريك المعقد وعي حقيقي بتعقيداته ودوافعها، وأن يكون ملتزمًا بصدق بالعمل على نفسه، وغالبًا بمساعدة مختص، كما يجب أن يتمتع الشريك الآخر بحدود صحية وتقدير ذات مرتفع.
س4: كيف أبدأ في جذب أشخاص أكثر استقرارًا عاطفيًا؟
ج4: المفتاح هو أن تصبح أنت نفسك أكثر استقرارًا عاطفيًا. جاذبيتنا تتشكل بما نشعه من الداخل. عندما تعمل على شفاء جروحك، وتعزز حدودك، وتصبح مرتاحًا مع الهدوء، ستبدأ تلقائيًا بجذب أشخاص يشاركونك هذا الاستقرار والهدوء، لأن هذا هو ما سيعكس احتياجاتك الجديدة.
خاتمة
إن الإجابة على تساؤل لماذا تجذب الأشخاص المعقدين عاطفيًا؟ تقودنا إلى رحلة استكشاف الذات قبل كل شيء. إن هذا الانجذاب ليس قدراً محتوماً، بل هو نتيجة لأنماط سلوكية ونفسية قابلة للتعديل والتحسين. التحدي الحقيقي ليس في تغيير الشريك المعقد، بل في فهم وإصلاح النموذج الداخلي الذي يدفعك للبحث عنه. عندما تكتشف قيمتك الحقيقية وتؤسس حدودك الصحية، ستجد أن جاذبيتك تتحول بشكل طبيعي نحو العلاقات الأكثر أمانًا، استقرارًا، ورضا. تذكر دائمًا أن الحب الحقيقي لا يجب أن يكون صراعاً مستمراً أو إدماناً للدراما، بل يجب أن يكون ملاذاً آمناً ودافعاً للنمو المشترك.
هل مررت بتجربة الانجذاب نحو شخصية معقدة؟ شاركنا قصتك أو رأيك في التعليقات أدناه!